هَمَسـَــاتٌ عـَـابرةْ II



"لن أبلغ قرطبتي.. عبر السهل
وعبر الريح ...مهرٌ أسود. قمرٌ أحمر
والموت يراقبني من أبراج قرطبة
آهٍ من طول الطريق
آهٍ يا مهري الشجاع
إن موتي بانتظاري
قبل أن أبلغ  قرطبة
قرطبة بعيدةٌ ووحيدة...

حين حكموا عليه بالقتل سألهم راجياً بألا يقتلوه بضوء القمر ...
فالقمر عنده شاعري المعنى .. رومانسي الشكل...طيب المدلول ....
ولم يكن بغرناطة ابدا قمر في تلك الليلة ...
كانت  غرناطة مظلمة مرعوبة خائفة...نائمة ...كالطفلة المرتعدة في سريرها
نامت غرناطة وغفت عن احداث تلك الليلة وتركت شاعرها المحب يموت وحيداً...
يقول محمود درويش في قصيدته التي رثاه بها والتي حملت اسم لوركا:
عازف الجيتار في الليل يجوب الطرقات
و يغني في الخفاء
و بأشعارك يا لوركا يلم الصدقات
من عيون البؤساء

ويقول عنه الدكتور عبد الرحمن بدوي:"كان شاعراً يستمد الوحي من الروح الشعبية الاسبانية بما تنطوي عليه من حرارة وعنف واحتفال للأسرار وإيغال في التهاويل".

و عندما توالت الأحداث  ودارت ساقية القتل في الحرب الاهلية الاسبانية... جاء مقتل لوركا كاتب رواية "عرس الدم "كأحد أكثر الجرائم غموضا ملقياً بكثير من الأحاديث و الروايات و القصص التي يلفها الغموض ويغلب على أجوبتها الصمت بفعل  تلك اللحظات الكثيرة المبهمة التي وقعت خلال تلك الحقبة الزمنية الحزينة في بداية الحرب الأهلية الإسبانية حيث توقفت عجلة الزمن وأمست الأيام مظلمة  باردة والأحداث كثيرة متداخلة وصار القتل بالمجان و اختفى الآف البشر بدون العثور على أي اثر لهم
وجاء غموض مقتل لوركا ليؤكد ما قاله لوركا بنفسه عندما أدرك اقتراب ساعته
: انهم في إسبانيا أبداً  لا يشنقون الناس!.
ثم تنهد مضيفاً بحزنٍ حقيقي:
- إنهم  فقط ....
يسقطون الناس جثثاً هامدة!!. "
وعندما نعود الي ليلة مقتل لوركا ...في تلك الليلة عندما سيق إلى جلاده كما تساق الأضحية إلى ذابحها
سنجد دلالة عظيمة  لهذا المشهد الرمزي للمواجهة الدائمة بين السلطة الغاشمة و بين الكلمة التي يمثلها لوركا
أو بين الحاكم و بين الشاعر  تتضح جداً  في مشهد النهاية  والذي انقله لكم عن مقتل هذا  الشاعر :
ابتسم الحاكم ابتسامة انتصاروهو يتأمل ذلك الشاب النحيف الواقف امامه...ثم قال:
- غارسيا لوركا، أقررإدانتك بالخيانة لبلدك ومسقط رأسك؛ وأحكم عليك أن لا تكتب اطلاقاً بعد اليوم!!.
ارتعش الشاعروانقبض قلبه قبل ان يردد مستفسراً:
- اطلاقاً؟!
- نعم، اطلاقاً! ولا كلمة .....
وهنا بحزم وبطريقة انسان ادرك انه لا اختيار له وبلا تردد أجاب لوركا:
- بل الموت أحبُّ إليّ!.
- هل هذه رحمةٌ تطلبها مني؟!.
- الموت أحبُّ إليَّ، كرر الشاعر عبارته ذاتها بإصرارٍ غريبٍ مدهش!.
- اتفقنا، حتى لا يقال أنني رجلٌ بلا قلب!!.
و تناول الحاكم ورقة خط عليها بسرعة بضع كلمات، تترجم حكم الإعدام المسبق والمعد لينهى بذلك  تلك المحكمة القصيرة المهزلة!!.
أنه ذات المشهد دائما بين قوى الظلم والبطش و بين صاحب الكلمة والرأي المغلوب على امره
تماما كما حدث ذلك من قبل مع جاليليوا عندما حكمت عليه الكنيسة بالكفر وحكمت عليه محاكم التفتيش بالهرطقة و الإعدام نتيجة لآرائه ونظرياته حول  دوران الأرض حول الشمس بما يخالف رأي الكنيسة  وخُير جاليليوا  بين القتل او الإقرار بما يخالف آرائه وقناعته الشخصية بان الأرض لا تدور حول الشمس ...
وعلى مشهد من الناس وامام تلك الجموع وقف جاليليوا وهو يهز رأسه حزينا مكسوراً يقر بذنبه وجريمته التي لم يقترفها والتي هي من وجهة نظر الكنيسة كفر وهرطقة
وبعد ان فعل ما ارادوه منه نظر طويلاً للأرض ....
وتمتم منكسراً باكياً مردداً...
ولكنها تدور ....ولكنها تدور...
ونعود الي لوركا الذي قُضي عليه بالإعدام...
لكنه تماسك و تمسك بألا يستسلم ,,,
تمسك بألا يعطي جلاده فرصة أن يبتسم منتصرا
أختار أن يموت ...لأن الموت عنده ببساطة  أفضل من ألا يكتب ما أرادوه منه رغما عنه
الموت أفضل ألا يكتب ما هو ضد قناعته ...
وأن يموت أحب اليه من ألا يكتب مطلقا...
وبدا....لو أن القمر المظلم في تلك الليلة قد صبغ بلون الدم فصار أحمر
وعندما اختار لوركا الموت...
اختار أن يموت مبتسماً ...
ومات لوركا مبتسماً ...

وللحديث بقية...............


Categories: