ترى لماذا يخاف الجميع من ذلك المنزل؟ !
هكذا سأل نفسه بينما تحبو عينيه في هدوءٍ متنقلة على زواياه و مُربتةً بتوجسٍ على كل ثنايا ذلك المنزل القديم المتهالك في نهاية الشارع وقد بدا غارقاً في ظلمته الحالكة وكأنما قد امتدت تلك الظلمة التي تكسوه لكي تصبح لونً ملازماً له..
رفع رأسه بهدوء وقد أوشكت الشمس الذاهبة بأن ترفع أياديها الحمراء عن ساحة العالم وهي تلفظ بهدوءٍ أخر أنفاسها في لحظات الغروب ...
توقف متأملاً كافة أنحاء المنزل للحظاتٍ محاولاً لملمة تفاصيله الكثيرة , متفحصاً في توجس كافة ملامحه المخيفة
وقد بدا المنزل أمامه كأطلال شبحٍ عملاق وبدت نوافذه المغلقة ذات الزجاج القديم المُترب كما لو كانت عيون داكنة منفتحة على اتساعها من أعماق الجحيم تحيط و تترصد كل تفاصيل العالم من حوله ..
لماذا !..ما سر ذلك المنزل الذى يروى البعض عنه أحاديث عجيبة هي أقرب للأساطير..
وما كل تلك الحكايات والقصص التي يتندرون بها في جلساتهم و أسمارهم.....
إنها بالفعل تبدوا وكأنها مترادفات كثيرة ولكن كلها في النهاية تعطي معانٍ قريبة للغاية...العفاريت ....النداهة ....البيت مسكون بعُمَارهِ ...يقطنه الجان....بوابة للعالم الأخر...
كل تلك الكلمات تجري على ألسنتهم بخوفٍ وخشيةٍ وتوجس...يقولونها دائما كعبارات غير مكتملة سرعان ما يقطعونها بالصمت المبهم الطويل ثم ما يلبثون بأن يتلفتون يميناً ويساراً ثم يتعوذون و يتحولقون .....أو يقولون ..."بعيد عنك و عن السامعين" .......
و لكن لعل هذا هو ما قد اعتاد عليه أهالي قريتنا الصغيرة دائماً...
فهم ينسجون حكاياتهم الغريبة من لا شيء ...
ولعل هذه هي عادة أهل الريف في زماننا هذا و خاصة في قرية نائية قد نسيتها الدنيا وسقطت من ذاكرة العالم كقريتنا تلك...
و بينما العالم من حولنا قد خطى خطوات واسعة نحو المستقبل فلا نزال نحن نحيا في قريتنا تلك كما لو كنا في العشرينيات من القرن الماضي .... و لكن لماذا يهابون هذا المنزل القديم و يخافون منه؟؟
هل هي ظلمته الشديدة الحالكة؟؟؟
هل هو منظره الباهت المفزع ....؟!
أو لعله طرازه القديم الغارق في الكأبة والذى يعود بك الى قرن مضى.....
هل هو صمته المقبر المخيف...ام لكونه مهجورٍ منذ عقود ...
أم بسبب كل ما توارثناه عن كل تلك الجثث الموجودة في الداخل لإناس يقول أهل القرية بأنهم يشعرون بهم يتحركون ليلاً ويقولون أنه وفي ليال قمرية معينة يسمع الناس أصوات صراخ ٍمفزعٍ ويرون أضوائاً مخيفة تأتي من الداخل
إنهم يقولون أنهم يرون أشياء كثيرة....
لا..لا..فما أحسب كل هذا إلا محض خيالات قد أنجبتها مُخَّض الخوف المتوارث ..وما يقيني إلا بأن ما يخيفهم في الحقيقة هو الخوف نفسه.... إنهم يخافون من أشياء كثيرة ولكنها في الحقيقة لا شيء.......
أنهم مختلفون عني ....وأنا مختلف عنهم ...
أو هذا ما يجب أن أكون عليه ...
وكيف أكون مثلهم وأنا من قد ذهب إلى الجامعة و تعلم الكثير والكثير ..
وعَلمِ من مشاهدات الحياة ومن تجارب الواقع ما لم يعلمه أبداً أهل هذه القرية من البسطاء فلا يخيفني الظلام ولا يفزعني ذِكرُ الجان والعفاريت...
أَسدلَ الليلُ كاملَ سدوله وأَتمَ أغلاق مزاليجِ أبوابه المحصنة على خبايا عالمه الخاص ...
وكأنما قد بدت تلكم الليلة أكثر إظلاماً من كل الليالي عداها ...
هكذا أُلقي في روعهِ بينما يتقدم ببطيء ليقترب رويدا رويداً من هذا المنزل و من حولهِ بدهشةٍ و خوفٍ تلاحقه عيون الناس وتترصده .. ومن خلفهِ تتناثر أصواتهم كأحجار رجم مؤلمة تُلقىَ في ظهره بينما تمتلئ أوداجه بشيء من مشاعرالفخرالناجم عن كونه قد صار محل انتباه وتركيز الناس ........ولما لا؟؟
أليس شجاعاً ..أليس هو الوحيد الذي قد جرؤ على التفكير في تحطيم هذه الأسطورة....أسطورة الخــــــــــــوف..
تمر اللحظات عصيبة.... بطيئة..... .بطيئة....
..يقترب اكثر من البيت
صارت الأصوات المختلطة من حوله أوضح وأقرب .....
أرجع ؟؟... عد.؟؟ مجنون..
الأصوات تزداد ابتعاداً وخفوتاً.. كلما أزدادت خطواته أقتراباً من المنزل.......
الأن باتت ملامح البيت كأوضح ما يكون...
أوووه ...يا الله يا له من منزل بشع المنظر, كئيب اللون
هكذا قال لنفسه وهو يتأمل المنزل و قد بدا كوحشٍ متخمٍ شرهٍ قد أبتلع كل ضحاياه لتوه ولم يكتفي بل عاد يرغب في المزيد...
تسمرت قدماه لبرهة ونظر للبيت نظرة شاردة ...ثم ألتفت للخلف ببطيء ملقياً نظرة أخيرة على كل ما هو خلفه قبل أن يسرع الخطى قاطعاً تلك الخطوات الباقية غير مبالٍ بصراخ الناس ومحاولتهم إثنائه عن مقصده...
سَكنَ للحظةٍ محاولاً إستعادة رابطة جأشه قبل أن يخطو خطوته الأخيرة إلى داخل المنزل و قبل أن ينغلق الباب ...
شاهد الحشد المحيط بالمنزل و لأخر مرة ذلك الشاب الصغير و هو يرتفع في الهواء و كأنما قد حملته أياد خفية في داخل البهو قبل أن ينغلق الباب فجأة وبعنف وبصوت صريرٍ مخيفٍ مفزع على صرخةٍ مدوية أنتزعت صرخات الرعب من عيون الناس وانخلعت لها قلوبهم ...
أفاق أحد الجنود المكلفين بمراقبة المنزل من بعيدٍ من صدمته وأدار رأسه بسرعة وتوتر إلى الضابط المكلف بحراسة المنزل.
:-سيدي هل نقتحم المنزل ؟؟
نظر اليه الضابط الشاب بشرود وقد بدا مذهولاً وغير مصدقٍ ثم انتبه قبل أن يصرخ فيه قائلاً: هل أنت مجنون أيه الجندي؟؟
ثم هدأ فجأة قبل أن يلقي نظرة أخيرة بائسة تجاه المنزل المظلم وكل هؤلاء الجمع المحتشد إمامه ويقول: بل سنؤيدها كالعادة ..................ضد مجـــــــهول!!
Categories:
قصص قصيرة