اِلْتَقَطَ أنفاسه بصعوبةٍ محاولاً كبح جماح لهاثه الُمتسارع..
بينما يلقي بجسده مستنداً على ذلك الحائط القديم وهو يمد كلتا يديه و يرفع ساعده محاولا إيقاف تدفق طوفان العرق المنساب بغير توقف على مسام وجهه ..
أدار رأسه مرتعباً من وراء ذلك الحائط محاولا مد عينيه الصغيرة كي تخترق حدود ستائر الظلام المنسدلة من أمامه في محاولةٍ لاستيعاب أي من تفاصيل ملامح هذا المكان من حوله ...
تحركت عيناه بتوترٍ وخوف وهو يلقي بنظره من وراء الحائط في اتجاه الطريق مترقباً لبوادر انبعاث ٍلأي بصيصٍ من الحركة قد يدب في ذلك الظلام الساكن...
طمئنه ذلك الهدوء النسبي في محيط المكان من حوله فأسند رأسه على الحائط وتنهد بخوفٍ حذر ثم رفع رأٍسه ببطء متأملاً بتوترٍ وقلق تفاصيل المكان من حوله
...منزل قديم متهدم...يقع فوق تلة تطل على نهاية الطريق... لم يتبقى منه سوى بقايا لإطلالٍ جاثمة فوق إطار الزمن تتخللها بعض الجدران المنهدمة والذكريات المنسية المبعثرة ...
أسند مؤخرة رأسه بهدوء ٍعلى الجدار من خلفه وأرخى جسده المنهك ...ثم أغمض عينيهِ فتسارعت في جوانب عقله خيالات كثيرة تنساب لتفاصيلٍ عديدة قد سبقت تواجده في ذلك المكان مرت مندفعة كشلال بريٍ يتدفق بلا هوادة...
...جميلة.... زوجته.....
"حسين" و"هناء" أبنائه....
مسدس ...
دماء متناثرة...
رفع كفيه نصب عينيه وهو يقلبهما ببطءٍ متأملاً بتمعنٍ راحتي يديه وكأنما يبحث بين تفاصيلهما عن شيٍء ما ثم تمتم بشرودٍ.... هذه الأيادي أبداً لم تقتل ...أبداً لم تقتل.....
ثم رفع رأسه وهو يفكر ..إذ...كيف يمكن أن يقتل وهو الذي قد عاش طوال حياته مسالماً وكما يقول الناس عنه "يمشي بجانب الحائط" حتى ظن الناس به ضعف الشخصية و ألقوه بصفات الجبن فصار مثاراً لسخرية زملائه وجيرانه وحتى زوجته .....
لكنه كثيراً ما تحمل ...
وكثيراً ما كظم غيظه ...
فقط من أجل أبنائه ...
فلو خُير بين أن يضحي بعمره كله وبين سعادة أبنائه لأختار أن يضحي بعمره بلا تردد...
عم ...ربما في أوقاتٍ كثيرةٍ أحس بالحزنِ ...أو شعر بالغضب أو الحنق ...ربما حتى قد انتابته بعض مشاعر الكراهية...نعم ...ربما حدث ذلك
لكنه أبداً لم يقتل...
أطرق برأسهِ واجما ًوهو يهزها أسفاً متمتماً ...
- أبنائي " حسين وهناء" ...كم افتقدهما حقاً
كم أتمنى رؤيتهما ولو لدقائق قليلة......
قالها وهو يتأمل ميدالية صغيرة بشكل قلبٍ تحمل صورتهما معاً
ثم تراجع بظهره صادماً مؤخرة رأسه بذلك الجدار من خلفه وكأنه يعاتبه ...
أو كأنه يعاتب ذلك العالم القابع من خلف هذا الجدار...
_ يا ليتني كنت كَذاَ الجدار ....
قالها وهو يرفع يديه ليمسح بأنامله تلك الدمعة الساخنة الفارة من مقلتيه ...
ولكن سرعان ما انتفض جسده ورفع يديه بخوفٍ كي يحمي عيناه بعدما أنارت وجهه بقعة ضوءٍ ساطعةٍ قد سلطت على مكان تواجده تصاحبها أبواق سيارات الشرطة وضجيج خطوات الجنود الذين قد انطلقوا مسرعين للقبض عليه...
لحظات مرت خاطفة كوميض البرق.....
كان أحمد يعلم ومن لحظة هروبه بأنه هالك لا محالة...
بريء.....
ربما ....
لكنه لم يستطع اثبات براءته
فالكل قد وقفوا ضده ....
يدركون براءته لكنهم قبلوا أن يلطخوا براءتهم هم بشهادة الزور ...
هكذا فكر...
وهكذا قرر أن يهرب عندما توانت له الفرصة
فكل أمله أن يرى أبناؤه فقط قبل أن يموت...
لكن ...هربت جميلة...
وأخذت أبناؤه...
بعدما أتهمته بقتل خالد زميلها في العمل...
ما أغرب هذا العالم !!
خالد ...عشيقها ....
كم كنت مغفلاً ...
هكذا حدث نفسه وهو يلومها على حسن ظنها بالبشر وانطلقت قبضتا يداه لتدق على الجدار بدقات متتالية وبعنفٍ زائد قبل أن يتراجع ممسكاً كلتا يديه بالأخرى بعدما ألمته الضربة.
فتحسس قبضته ثم ربت بيديه على الجدار كأنما يعتذر له هامساً في شرودٍ وقد أغمض عينيه: ما أقسى البشر...
وتحسس الجدار الذي بدا كما لو كان مبتلاً بدموعه ثم همس:
لعل بهذا الجدار قلباً أحنُ وأصفي من كل قلوب هؤلاء البشر...
ثم تمتم .... كم أغبطك يا ذا الجدار ...يا ليتني مثلك .... أويا ليت البشر. ...!!
أنتزعه من أفكاره تلك ...ذلك الضجيج المرتفع لتلك الأصوات الصاخبة ذات النبرة التهديدية المصحوبة بطلقات تحذيرية انتشرت في كل انحاء المكان..
- سلم نفسك يا أحمد المكان كله محاصر لا داعي للمقاومة فالأمر محسوم ...فلا تضيع نفسك...
أبتسم أحمد ابتسامة حزينةٍ وابتلع مرار ألمه ثم مد يديه لكي يكفكف بها دمعه الذي ما انفك ينساب بلا توقفٍ ثم قال هامسا ً ...
ما احسب غير أنني قد أضعتها منذ زمن طويل....
ربت أحمد على نتوءات الجدار بحنوٍ وقد أحس بفيض حرارةٍ تسري في جسده البارد من ذلك الدفء الذي يشع من بين مسامات الجدار ثم امتدت يديه بتوتر واضطراب تتحسس حافته كأعمى يبتغي طريقه.... حتى تحرك خارجاً من وراء الجدار ...
تسلطت كل الأضواء على نقطة واحدة ... وتعلقت كل العيون بها وعدلت كل الفوهات المتأهبة للإطلاق من أوضاعها في تجاه تلك البقعة التي خرج منها أحمد...
خطا أحمد بتوجسٍ خطوة اخري إلى خارج الجدار فصار أكثر وضوحاً لمطارديه...
ثم نظر إليهم بهدوء وأبتسم ابتسامة رضا بينما تمتد يديه لتتحسس شيئاً ما قد أُخفي بين طيات ثيابه أو في جوانب صدره من أسفل قميصه الممزق...تحسسه حتى وجده فأخرجه بتوترٍ قابضاً عليه بكلتا يديه بشدة ومحتضناً إياه بحنوٍ فوق صدره ...
مد يديه بترددٍ واضطراباً مشيراً بها في تجاه هؤلاء الجمع المحيط بينما بدت يداه وكأنها تقبض على شيئاً ما أو ربما على لا شيء على الأطلاق... ...
وفي ذات اللحظة وبلا ترددٍ...
انطلق اعصارٌ من رصاصات تلك الفوهات المتأهبة من شتى الاتجاهات المختلفة ليسقط مُبللاٍ أديم الأرض كأمطار الشتاء...
وتصدع حين بللٌ بالدموع...
أو لعل تصدعه حين بللٌ بالدماء
لكنه وحين أغرق بالبكاء...
لم تُكذب الأعينُ
إن الدم قد سأل ساخنا ًمن قلب هذا الجدار...
Categories:
قصص قصيرة