ترددت أصداءُ تلك العبارة المقيتة في أذنيه مراتٍ ومراتٍ حتى غامت نفسه و احمرت عيناه من الغضب وهمت طبلتي اذينه أن تتمزقَا من شدة ثقل هذه الكلمات وكثرة تكرارها وترددها في عقله وكادت بأن تفقده صوابه و تزيد من حدة توتره ففكر سريعاً بأن أفضل الحلول المتاحة هو بأن يجعل أصابعه في أذنيه محاولاً إيقاف هذا المد الهائل لأصداء ذلك الصوت القادم من أعماق أعماق نفسه و لكنه وبعد ترددٍ قصيرٍ , ما لبث أن حزم أمره و طرد تلك الفكرة التي ما انفكت تحوم حول سماء عقله وذلك بمجرد انتباهه فجأة لخيالات غير واضحة الملامح لهمهمات بعيدة أو لما بدا كأنه صوت بشري يتضح حينما يقترب و يبزغ تارة ويخبوا حينما يبتعد و يخفت تارة أخرى...فألقى بكلتا اذنيه بملء السمع حتى استوضح بضع كلماتٍ اتيةٍ من غير بعيدٍ لصوت ما مردداً اسمه بصوت أجش : "أستاذ عبد المعطى حسين................أستاذ عبد المعطى حسين...!!
حاول "عبد المعطى “بكل ما أوتي من قوةٍ بأن يستجمع أفكاره ويلملم بعض شتات ذهنه وأن يستعيد رابطة جأشه ويشحذ همته وأواصر تركيزه ...متأهباً ومتخذا وضع الاستعداد لما قد اُلقي في نفسه من ظنٍ بأنه مقدم عليه أو ينتظر حدوثه بعد برهة ...
-تقدم عبد المعطى بخطوات متثاقلة مضطربة بينما يجر أقدامه جر النخيل المنقعر قاصداً الاتجاه صوب ذلك الصوت المُنادي.
ارتفع صوت الموظف الجالس من خلف تلك الفتحة الضيقة في إطارها الزجاجي القديم الواضح الشروخ , الضبابي الرؤية. قائلا له بلهجة حادة متسارعة وقد بدا وكأنه تعود عليها:
- مبروك يا أستاذ عبد المعطى اللجنة القانونية المُشكلة والمنوطة ببحث مشكلتك قد وافقت بالأجماع على الشكوى والطلب الخاص المقدم منك و الذي تعترض فيه على تجاهل مُقوماتك الوظيفية وتتظلم فيه من تخطى دورك في الترقية.............
ارتفع حاجبا عبد المعطى و فغر فاهُ وتفككت أسارير وجهه و هو يقول في دهشة ممزوجة بكل علامات الفرح الشديد... :ماذا ؟!! أنا ؟
ثم تلعثم عبد المعطى واعتلاه الوجوم لبرهة فلم يكن و حتى اقتراب تلك اللحظات قد استجمع شتات عقله أو حتى القى ببذور التصديق إلي نفسه كي تظلل عليها و تحتوي كل ما يستمع إليه بتلك اللحظة...فقال بصوت متحشرج مبحوح:
- ماذا....ماذا تقول....ماذا تقول؟؟....
لم يستطع الموظف ذو النظارات الغليظة القابع من خلف الزجاج ان يخفي اندهاشه وذلك عندما ...
نظر عبد المعطى نظرة زائغة تجاه الرجل وقد أغمض عيناه محاولاً استجماع كافة شظايا عقله المتناثرة ودمدمات أفكاره المتخبطة وقد ترك قيد العنان لكل تلك الأفكار محدثاً نفسه بأنه و أخيراً.. قد وآتته الفرصة لينتصر على ذلك المدير الروتيني اللعين المدعو " شاكر أفندي" والذي طالما أذاه بالخصومات و عاقبه بالجزاءات و حجب عنه شعاع تلك الترقية التي يوقن بأنه يستحقها عن جدارة بحجة تقصيره وفشله وتأخره الدائم عن أوقات العمل أو عدم تمتعه بأي من الكفاءات أو المؤهلات الوظيفية اللازمة.
و لـــــكن................
وأخيرا.......
فلابد للحق بالنهاية دائما أن ينتصر ولابد للعدل بأن يشق طريقه ويتخذ مجراه مهما كانت المعوقات “هكذا حدثته نفسه " فأخيرا و بعد كل تلك الخدمات الجليلة التي قدمها للمصلحة التي يعمل بها وبأمر قانوني استثنائي نافذ العمل , ساري التنفيذ, سينال عن جدارة تلك الترقية التي طالما سعى إليها و حلم بها ..تلك الترقية التي ربما تعنى له الكثير والتي يعني حصوله عليها أثبات كفاءته للجميع وبرهنة خطأ وجهة نظر زملائه ومرؤوسيه في قدراته كما و أنه بتلك الترقية ببساطة سينتصر على ذلك المدير الوغد الذي طالما حطم معنوياته و دمر جسور أمانيه..... و عندئذ............جالت بخاطرهِ فجأةً ذات العبارة المقيتة التي طالما أزكمته رائحتها و أذاقته "حناظلها "مرارة طعمها في حلقه....."انك إنسان فاشل.....إنسان فاشل ....فاشل"
أوووف .... خرجت منه تنهيدة حارة لعلها تعكس كَم امتعاضه من هذه الكلمات القاسية فابتسم بهدوء قبل أن يهمس محدثا نفسه :
- حسنا.. والان ستعلم يا" سي شاكر أفندي" من هو الأجدر فينا بإدارة هذا القسم بل و ربما إدارة القطاع بأكمله وربما غدا بإدارة المصلحة كلها ..و بعدها.... و بعدها......... ولمعت عيناه بوميض ما .. وهو يحدث نفسه بسعادة قائلا : سوف أخصم لك في كل يومٍ... يوم ...بل.... في كل يومٍ شهر أو حتى سنة فما المانع....
هكذا فكر عبد المعطى وأقنع نفسه بان شاكر افندي بالتأكيد يستحق من العقاب ما هو أكثر من ذلك... وانه بمجرد و صوله إلي مبنى المصلحة ومن بعد حصوله على الترقية و توليه المنصب الجديد فانه ولابد موقعا علي "شاكر أفندي" أقصى الجزاءات الممكنة و التي تنص عليها لائحة المصلحة .....
و عند هذه اللحظة لم يستطع عبد المعطى كبح جماح هذه الابتسامة الباهتة التي تسربت من بين شفتيه و ما لبثت إن اتسعت كاشفة عن أسنان صفراء اللون متآكلة...ثم اتسعت هذه الابتسامة اكثر واكثر بينما تجول بخاطره خيالات سريعة لمديره شاكر افندي و هو جالس على كرسيه واضعا وجهه بين راحتيه وصوت بكائه وانتحابه يرتفع وهو يرجوه بكل غالٍ أن يرحمه و يعفو عنه....وهنا اتسعت الابتسامة وصارت ضحكة والضحكة تحولت إلي ضحكات تلتها قهقهة ...............
يااااه...... أخيرا........
نطق عبد المعطى بهذه العبارة و هو يتأمل تلك اللافتة القديمة........والتي تحمل اسم المصلحة الحكومية التي يعمل بها.
وقد بدا واثق النفس و هو يخطو بقدميه أولى خطواته الجديدة داخل المصلحة و قد القى بنظرة سريعة غير مكترثة على" عم صابر" البواب الجالس على الباب الخارجي للمصلحة مفترشا "دكة "قديمة بجانب الباب كعادة أبناء الريف وقد بدا وبين أصابعه قصبة " الجوزة " وهي تتمايل برويةٍ وكأنها ناي شَجٍن في يد ساحر هندي أصيل يجلس متربعاً وهو يهز رأسه متمايلاً بسعادة مع أنغامها بينما يشد الأنفاس الواحد منها تلو الأخر متأملا زوايا العالم من حوله بعمق بينما يبثه أمواج من الدخان الأسود في فضاء هذا الهواء أمامه باستمتاع وسعادة بالغة وقد بات مقتنعاً تماماً بأنه حتماً لابد وأنه يضيف لهذا العالم شيئا ما حتى ولو كانت تلك الإضافة متمثلة في سحائب دخان سوداء كريهة الرائحة تخرج من فمه...لتزيد في تلوث هذا العالم أو تضيف إلي كأبته.
- سلام عليكم يا عم صابر
- اخرج عم صابر "أنبوب الجوزة " الدالف في فمه بهدوء ونفث دخانها ما بين ثنايا طبقات الهواء الراكد غير عابئ بتغطية سواد غيمتها لكل الوجوه المارة من أمامه ثم رد بهدوءٍ وسحائب الدخان تغلف كلماته وتدغدغ حروفه : هه ...ســـلام يا سيدي... خير أن شاء الله ؟ ماذا تريد؟؟
بُهت " عبد المعطى" وأستوقفه هذا الرد الجاف المباغت و غير المتوقع و كاد بأن ينطق بكلمة ما وهو يعتصر قبضة يده ويزيح بأصابعه بقايا سحائب الدخان العالقة في الهواء من أمام وجهه الشاحب بينما يسعل بقوة كح كح كح ..... و لكنه لم يلبث بأن حزم أمره و جمع شتات نفسه و استعاد ثقته التي كاد يفقدها من لحظات ثم نظر إلي عم صابر بازدراء قائلا في لهجة إمرة: افتح لي باب الأسانسير لو سمحت يا عم صابر "علشان" اطلع.
بدت علامات الدهشة والاستنكار على وجه عم صابر :
تطلع ؟؟....تطلع على فين يا عم الحاج ؟؟ هي وكالة من غير بواب........... و لمؤاخذة ما تطلع على السلم زي باقي الموظفين و لا أنت يعنى على راسك ريشة!!!؟
ألقى إليه عبد المعطى نظرة صارمة غاضبة مندهشة مستنكرة .....وكادت عيناه بأن تخرجان من محجرهما من شدة الغضب فمد يداه محاولا الإمساك بتلابيب أو رقبة عم صابر و لكنه تذكر بأن هذا اليوم هو يوم يفترض فيه بأن يكون اسعد أيام حياته و غير مفترض بتاتاً بأن يعكر من صفوه شيء ما أو أنسان ما أو أن يمر بهذا الشكل المأسوي فربت على صدر عم صابر بقوة وهو ينظر اليه بعينين ضيقتين كما لو كان يتوعده ثم أعاد يديه إلى جانبيه بهدوءٍ تاركاً عم صابر كالتمثال المتجمد وقد فغر فاهُ وتيبست اطرافه من الدهشة ...ثم اتجه "عبد المعطي " صوب السلم الخاص بالشركة وهو يتقافز درجاته بسرعة ٍو نهمٍ حتى و صل للطابق الثالث فتسارعت خطواته اكثر وهو يمضي بينما يوزع في ذات الوقت ابتساماته وسلاماته بكل ثقة على كل من يقابله من عرف منهم أو لم يعرف.
رفع عبد المعطــى رأسه برويةٍ وقد تعلقت عيناهُ على تلك اللافتة المثبتة فوق الباب الخشبي المغلق و التي طمس الزمان أغلب ملامحها فلم يبقى منها غير أجزاء صغيرة محفور عليها حروف شبه ممحوة لكلمة" مدير"
دفع عبد المعطى الباب بقدمه بعنف ثم دخل بعجالة وألقى نظرة فاحصة على المكان بسرعة حتى تسمرت عيناه على ذلك المكتب الكبير في و سط الحجرة فاتجه إليه و لم ينسى بأن يمسح أولا زجاج المكتب بمنديله "المحلاوي" المهترئ قبل أن يثب عليه واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى مخرجاً من بين طيات ثيابه علبة الدخان و قام بلف سيجارة بمنتهى الهدوء و الثقة قبل أن يدسها بين شفتيه ويشعلها و هو ينظر بتجاه هذا الرجل المذهول المحدق فيه و الجالس من وراء المكتب الخشبي ... نافثاً سحابة دخان تلك السيجارة في وجهه و هو يقول : بتعمل إيه يا افندي؟؟!!
رفع الأستاذ شاكر عينيه ببطيء من خلف زجاج النظارة السميكة و ضاقت حدقتا عينيه و هم بأن يتحدث بشيء ما!! إلا أن عبد المعطى سارع بالإمساك بتلابيب ثيابه فجاءة قائلاً:...انظر إلى جيدا يا شاكر هل تراني من خلف نظارتك بوضوح ...ممم أشك لكن..... حسنا..... أُعرفُكَ بنفسي بشكلٍ أوضح ...:أنا المدير الجديد!! واتسعت حدقتا عيناه على قد اتساعهما وأومضتا ببريقٍ من التحدي بينما تمتد يداه إلي بنطاله كي تخرج من جيبه ورقة صفراء مطوية بإهمال قبل ان يفردها ويشير إليها قائلا: انظر إلى هذه الورقة: هل تعرف مبادئ القراءة ....؟؟؟...حسناً تأمل... انه قرار ترقيتي و تعييني مديرا للقــسم هل تفهم يا أفندي.
اذهب الأن واجلب لي فنجانا من القهوة بيديك و سندويتشات الفول و الطعمية من عربية فول "عم دعبس" الموجودة في الميدان!! أمام المصلحة
نظر إليه شاكر افندي وعلى وجهه كل علامات الصدمة والاستغراب ثم قال له أنت؟؟؟ ماذا !!!!! ....أنت تصبح مدير ...؟؟؟!!. و الله عال ّ!!أنت !...أنت!!؟ أنت أيها الموظف الكسول المهمل , يا وصمة عار في جبين المصلحة كلها...!!!
انك لست إلا مجرد موظف فاشل....فاشل...فاشل وكسول هل تفهم ؟!!
انك لست إلا مجرد موظف فاشل....فاشل...فاشل وكسول ؟!!
احمر وجه عبد المعطى و هو يصرخ بصوت مخنوق و مضطرب ....ماذا ماذا ماذا تقول يا أنت ...فاشل ....أنا؟!!تقولها وتكررها ايضاً في وجهي أيها التعس..........
سوف أجعلك تندم على كل يوم نطقت فيه بهذه الكلمة..سوف....
و امسك عبد المعطى بعنق شاكر افندي و هم بأن يوجه إليه ضربة عنيفة برأسه و لكنه تراجع فجأة!!!...ممسكاً برأسه هو بدلاً من رأس شاكر افندي !!!!! وقد بدا انه يشعر بآلام شديدة للغاية ...
لم يستطيع عبد المعطى إبداء المزيد من المقاومة أو تحمل المزيد من عضة الألم هذه أو كلاليب الضغوط التي شعر بها وقد أحس بما يشبه مطارق الحديد وهي تهوى على كل خلايا رأسه.
أرخى عبد المعطى جسده والقاه إلى أقرب المقاعد إليه... وضعاً رأسه بين راحتيه بينما عيناه تكادان أن تلتقيا ببعضهما و كأنهما قد أخرجتا من مقلتيهما لشدة الألم وقد بدت أذناه و كأنهما قد اتصلتا معا بعمود حديدي صلد اخترقهما معا...
صمت العالم من حوله فجأة كأنما تحول إلي فراغ كبير و لم يعد عبد المعطى يسمع غير أصداء كلمة واحده يتردد صداها بإيقاع منتظم يتكرر في رأسه.:
فاشل.... فاشل......... فاشل.......
وعند هذه النقطة تحديداً أظلم العالم بغته أمام عينيه وانقلب الفراغ إلي ظلام تام....
.............
............
ظلمة حالكة....
ثم نقطة بيضاء بعيدة جدا تقترب ببطيء ...
ثم بصيص من النور يخترق ذلك الظلام الدامس حتى أضاء عقله وأزال الغطاء عن عيناه بالتدريج و قد صاحبته تلك الاهتزازات العنيفة على جسده بواسطة يد غليظة تهزه مع صوت قريب من أذنيه بدا له أشبه ما يكون بصرخات و حيد القرن أثناء استمتاعه بالاستحمام في مياه نهرٍ استوائي
-أفق ....أفق......
.فتح عبد المعطى عينيه ببطيء و أدار راسه ناحية مصدر الصوت ليجد الأستاذ شاكر أفندي قائماً أمامه و قد ضم ساعديه أمام صدره وقد استشاط غضبا ً و من حوله وخلفه قد اصطف كل زملائه من موظفي القسم
نظر إليهم عبد المعطى نظرة مليئة بالتحدي وهو يحاول استرجاع مخزون أي من بقايا اللحظات السابقة للظلمة...
ثم رفع أصابعه بإجهاد وتثاقل و أشار إلى شاكر افندي قائلا:
تصوروا....؟؟!!! هذا الموظف المجنون حاول الاعتداء على أثناء تأدية عملي...
أنا ...أنا المدير!!!
نظر إليه شاكر أفندي بدهشة بالغه ثم قال صارخا: أنا ...أنا. اعتدي عليك ؟؟؟!!ا...
بل أنت الذى كنت تأكل أرز مع الملائكة و أنت نائم و تشخر أيها الموظف الكسول الفاشل .... نائم على مكتبك أثناء ساعات العمل ....
طيب وحياة شنبي لأخصم لك يومان بل أسبوع كامل جزاء لنومك أثناء ساعات العمل........... .انك فعلا لست إلا مجرد موظف كسول وفاشل........... فااااااااااااشل
أدار عبد المعطى راسه ببطء متأملا كافة الوجوه المحيطة من حوله بينما أخذت أصداء دقات منتظمة لكلمة واحدة تتكرر بلا توقف في أذنيه......
بينما يسمع من حوله كل تلك الضحكات والقهقهات لزملائه وهي تتصاعد و تعلو...
ألقىَ عبد المعطى نظرة أخيرة أحاطت بكل ما حوله ...ثم زاغت عيناه ...
و.... هوى
Categories:
قصص قصيرة