"يا مازن.... ألم أقل لك أن تُرتب مكتبك بشكلٍ جيد ... كأني بك تصر دائما على أن تضرب بحديثي عرض الحائط ولا تفعل بالضبط ما أطلبه منك"..
أنتفض مازن أبن العشرة أعوام في مكانه مذعوراً عندما أتاه صوت أبيه المتوعد من خارج باب غرفته لينتزعه أنتزاعاً من محيط عالمه الخاص الذي كان لا يزال غارقاً فيه بينما يلهو بإحدى العابه الصغيرة التي ما لبث أن ألقاها بسرعة من يده وأسرع الخطى مضطرباً مرتعداً متخبطاً مصطدماً في كل ما يقابله من أشياء وأثاث في طريقه لمكان مكتبه الصغير في إحدى زوايا غرفته الذي لم يكد يصل إليه حتى اندمج في ترتيبه و امتدت يداه بسرعة وتوتر في محاولة لإعادة تنظيم وتلميع وتعديل بعض مكونات المكتب و بعض تلك الأشياء الموجودة فوقه علها تظهره بشكل أفضل أو أكثر نظاماً بأقصى قدر قد يستطيعه أو يقدر عليه طفلٌ في مثل عمره القصير فتكون سبباً كي ينال رضاء أبيه عليه .
لكنه وبالرغم من ذلك ففي جزء ما بداخله لم يكن يعلم حقاً لماذا قد أمره أباه بإعادة ترتيب هذا المكتب مرة أخرى ...كان مازن يدرك أنها ليست المرة الأولى التي يطلب فيه والده منه تكرار أداء شيئا ما أكثر من مرة لكنه لم يفهم أبدا لماذا ؟!! وما سر إصرار والده الدائم على إجباره لإعادة كل عمل يطلبه منه أكثر من مرة وكأنه يعاقبه على شيء لم يفعله أو على شيء لا يدركه أو ليجد له دائما المبرر المناسب لمعاقبته على أي تقصير ...
وبرغم يقينه التام بانه قد فعل كل ما يستطيع حتى ينهي ما قد طلبه اباه قدر استطاعته بل وربما قد فعل أكثر من استطاعته طلباً وابتغاءً لمرضاة أبيه وأملاً في كلمة ثناء منه قد تُطيب خاطره ...أو تربيتةِ حنوٍ تشعره باهتمام أبيه ,أو حضن دافئ يحتويه ويأخذه من وحدته وحزنه الملازمان له ....
ولكنه وبمجرد اقترابه من غرفة أبيه ومن شيئاً ما في نبرة صوت أبيه الجافة أعلمته بأنه غير راض عنه.
ومنذ متى كان أباه راضٍ عنه ...
هكذا حدثته نفسه ؟!!
إنه لا يذكر سبباً واحدا لتغير أبيه عليه ...!!
ولا لقسوته عليه بهذا الشكل!!
ولا يعلم ما سر لهجته الجافة الخالية من أي قطرات لنبضات حنان !!
ولم يعلم أبداً ما سر غضب أبيه الدائم عليه أو منه...
ولما يختفي أباه في يوم ميلاده وينفصل عنه وعن امه رغم أنه وحيده لينعزل في غرفته وحيداً ...ويتجاهل تهنئته في هذا اليوم ولو بكلمة ....
إنه حتى لا يذكر متى كانت اخر هدية احضرها له أبيه!!
ولا لماذا عندما يلقي اليه بنظرة استعطاف تستجدي بعض القليل من مشاعر الحب والعطف يشيح أبيه بوجهه عنه مبتعدا!!!
وكيف ولماذا ذهبت واختفت كل سبل الحوار بينهما وصارا كلاهما يحيا بمنأى عن الأخر في جزرٍ منعزلة لا ترابط بينها ولا تواصل يجمعهما ولم يتبقى بينهما من أنماط الحوار سوى طلبات وأوامر من ناحية أبيه وقبول وتنفيذ منه ...
اتسعت حدقتا مازن بينما تدور في عقله حلقات غير مترابطة من كل تلك الأسئلة التي لا جواب لها تتقاطع وتتشابك وتتداخل حدودها في عقله الصغير فتعجزه، وأنىّ لبرعم صغيرٍ في مثل عمره هذا أن يعي ما تلقي الدنيا على كاهله الضعيف من تصاريف الأقدار ...
فهل يكرهه أباه؟!!...
أو انه بات يكرهه...!!
لكن ...لم يكن هذا عهدهما قط سوياً في الماضي ومنذ سنوات قليلة لايزال يذكر منها بعض من تلك الذكريات المشوشة ...
خيالا ت قليلة تطوف برأسه الصغير من حين لأخر حاملة بعضاً من ذكريات طفولة سعيدة قد بدت بعيدة للغاية ..
لكنه لا يذكر منها سببا واحداً قد يدفع أبيه لكراهيته
بل لا يذكر غير أن اباه ما اعتاد يوماً غير أن يحبه ويحنو عليه ...فما الذي تغير....؟؟؟!!
وما الذي جعل أمه واجمة صامته حزينة دائماً ....
لكنها وبرغم صمتها ووجومها فحبها إليه جلي واضح المعالم ... ومشاعرها له مفعمةٌ بالحياةِ رغم حزنها فلا يشعر بالأمان والدفء قط الا في احضانها فقط.
إنه حتى برغم ذاكرته الصغيرة لايزال يذكر سؤاله لأمه ذات يومٍ عن سبب معاملة أبيه له بهذا الشكل وعن سر صمتها وبكائها الدائم
أنه لا يزال يذكر رد أمه الذي كان أغرب من سؤال ابن العاشرة ...
لا يزال يذكر صمتها و تربيتتها على رأسه الصغير برفقٍ واحتضنتنها إياه ..
لكنها في الحقيقة ...لم تجبه...
ولعلها لم ترغب أن تخبره بشيء
لكن صمتها عن اجابته وإظهار تماسكها لم يمنع دمعها ولا تلك النظرة الشاردة الحزينة التي لم يفهمها ابدا لكنه ادرك أن في صمتها ودمعها شيء من الإجابة لسؤاله وإن لم يفهم محتواه...
إن امه مقيدة ...بشيء لا يفهمه
وإن اباه مقيد عن حبه بشيء لا يعلمه...
أنه يشعر بكل تلك القيود تحيط بحياته ومشاعره ومشاعر من حوله ...قيود كثيرة
لا يراها ولا يعيها
فما سر ذلك القيد الذي ما طفق يقيدهم ويصفد حياتهم ومشاعرهم ؟!
وهل هو مخطئ في مشاعره تلك...؟؟؟
وأني لطفلٍ في مثل عمره ان يتحمل كل تلك المشاعر القاسية الحزينة
وان يتحمل كل تلك الأغلال والقيود التي تحجب عنه حب أبيه وأمه وتغل مشاعره اتجاههم
وتُلقي من حوله ما يكبل كل شيء في هذا المنزل بقيودٍ خفية صلدة لا تظهر للعيان ....
فما طبيعة هذا القيد الذي لا يفهمه ولا يراه لكنه يشعر به في كل ثنايا الحياة ...
أفاق مازن من شروده على باب غرفة أبيه المفتوح على مصرعيه فطرقه بهدوءٍ ثم تقدم حين لم يسمع إجابة فدلف متخطيا باب الغرفة في تجاه مكان أبيه الذي كان مشغولاً بتنظيف نظارته الطبية بهدوء فوقف مازن من وراءه صامتاً مطأطأ الرأس منكسر الهمةِ مرتعداً بغير سببٍ خائفاً من غير ذنبٍ حتى إنه لم يجرؤ ابدأ على إصدار مجرد صوتٍ ينبه أبيه الي وجوده ...
وبعد فترة انتظار طويلة وصمت بلا طائلٍ تصنع مازن السعال حتى ينبه أبيه الي وجوده...ولما لم ينتبه إليه أعاد الكرةَ ثانيةً ثم أنصت في انتظار ردة الفعل...
حتى أتاه صوت أبيه بارداً من خلف ظهره ِبغير أن يلتفت اليه ودون أن يتحرك قيد أنملةٍ أو يهتز له رمش قائلا بلهجة قاسية:
: -لماذا لم ترتب مكتبك كما قلت لك .....؟
تلعثم مازن وارتعد وهو يجيبه:
- بلى يا أبي قد رتبته مرتان ولكن فقط كنت ...
قاطعه أبيه بلهجة حاسمة جافة ....
- بل أنا أقول بأنه يحتاج الي إعادة ترتيب فأذهب وافعل ما يجب عليك ولو احتاج ما اطلبه إلى عشر مرات ...
صمت مازن...بينما يكسو القلق نبرات صوته الضعيف وهو يقول: أبي هل أستطيع ان اطلب شيء؟!
صمت أحمد قبل أن يجيبه بلهجة ناهرة ...
- لا ليس الأن ...فليس عندي وقت لسماع أي شيء ألا ترى بأنني منشغل بشيء أخر...ثم ألم أقل لك من قبل ألا تتحدث معي عندما تجدني منشغلا بشيء أخر...
- قالها أحمد بلهجة قاسية ثم علا صوته وغلظت نبرته وهو يضيف ...أم يبدو أنك لا تفهم ما أقوله ابداً...
عند هذه النقطة لم يستطع الصغير كبح دموعه الرقيقة أكثر من ذلك ففرت تلك الدمعة منسابة على وجنته ...ساخنة ...متحررة ..معلنه عصيانها فابتلت الأرض من تحت اقدامه كمداً ثم ابتلعتها كأن لم تكن ...
فطأطأ رأسه وارتعش جسده وكتم نحيبه الخائف خشية أستماع أبيه لبكائه فيعنفه أكثر ...
ثم فكر للحظة بأنه وربما إن استمع أبيه الي صوت نحيبه سيثير في قلبه الشفقة عليه ...
لكن أمله في ردة فعل مغايرة لأبيه مات قبل أن يولد أذ بقي أبيه كتمثال ثلجي لم يشعر به ولم يلتفت اليه
أو يهتز لبكائه جفنه
حتى ظن مازن بأنه لم يسمعه...
فتأثر أكثر وعلا صوته بنحبيه المكتوم أكثر وأكثر
ف جاء رد أبيه قاسياً بارداً صادماً....
ومن صوته الجاف الصارم أدرك مازن أن الأمر سيسري غير ما ظن...
- هل انتهيت من البكاء ......تفضل من هنا حتى أكمل ما كنت أفعله فليس عندي وقت لبكاء الأطفال....
ولم يتوان مازن بتنفيذ طلب ابيه بالانصراف حتى ما كاد يهم بذلك أتاه صوت أبيه من جديد ليشعل في قلبه الأمل في تغييرٍ ما عندما أستمهله قائلا....
بعدما تنتهي مما طلبته منك لا تنم بل اذهب الي والدتك لتساعدها في....
وهنا أغمض مازن عيناه
ثم اتسعتا حدقتاه ....
وفاضت دموعهما كمداً ..
دموع صامتة حارقة كلهيب الألم المحتقن في صدره
أما أبيه فلم يحرك ساكناً ....
لكنه فقط ....
وبدون ان يلاحظه أحد
مد يده بهدوءً كي يمسح دمعةً طال أسرها بداخله وقد آن أوان تحررها من سجن عينيه .
أن مشكلة الألم انه لا يؤلمنا فقط بل يتمادى ليؤلم كل من حولنا أكثر
حتى وأن بدا غير ذلك ....
همس لنفسه بعدما تأكد من خروج مازن
سامحني يا بني..."والله غصب عني"
ثم أغمض عيناه ببطء مسترجعاً لقطات قديمة بُعثت من أعماق عقله ....
الشمس تلقي بأشعتها الدافئة متخللة زجاج غرفة صغيرة في إحدى المستشفيات
أصوات مختلطة تحمل التهنئة ...
بينما هو وزوجته يضحكان بسعادة مستبشرين بأول أبنائهم مازن
الضحك والفرح كبتول أزهار الربيع يملئان جوانب المنزل
بل ويزداد أكثر... بمجيء طفلٍ أخر ..."إسماعيل"
ليصير البيت كواحة في عدن...
تنهد أحمد وهو يهمس لنفسه
- ما أجمل تلك الأيام ....
لقطات كثيرة للحظات سعادة تدافعت بتعجل من أمام عينيه
مازن وإسماعيل كملكين يلعبان ويشاكسان ويتضاحكان. فيوزعا السعادة في كل شبرٍ في أنحاء المنزل
اجتماع الأسرة حول مائدة الطعام والصغيران يتسابقان على مساعدة اويهما في توزيع الاطباق وترتيب المائدة ...
الأضواء و الزينة تملئ جنبات المنزل احتفالاً بعيد ميلاد " مازن " فقد بلغ السادسة وبلغ إسماعيل الرابعة ..
وحلق طائر السعادة ليرفرف بجناحيه الكبيرين على منزلهما الصغير
صراخ زوجته فجاءة ..
إسماعيل مات....!!!
كيف ...ماذا حدث؟!!
ويتذكر أحمد كيف هرع بسرعة ليجد أسماعيل وقد تمدد مسجيا ًبينما علت وجه الملائكي الصغير زرقة الأموات ...بينما مازن يجلس بجانبه باكياً لا يعي شيء
و لم يأخذ أحمد وقتا طويلا ليكتشف أن مازن وإسماعيل كانا يلعبان لعبة الاختفاء
كما تعودا وأنهما كعادتهما كانا يصنعان خيمة لهما من اغطية الفراش
ولكن ما حدث في هذه المرة أن اختبأ إسماعيل تحت غطاء الفراش وظن مازن انه يلاعبه فجلس فوق الغطاء حتى أختنق أخيه...
مات إسماعيل....
ولم يعي مازن غير أنها لعبة...
لعبة اختفاء قد بدأت وانتهت ...
لكن اللعبة هذه المرة كان اختفاؤها قسرياً وإلى الابد
لعبة أتت نهايتها بغير ما تعود عليه في كل مرة
لم تنتهي بالضحك...
ولكنها انتهت بالبكاء والعويل
..لم يستوعب عقله الصغير يوماً لماذا لم يجيبه أخيه النائم عندما نادي عليه ولا لما لم يتحرك حين ربت عليه ...
لم يتفهم تلك النظرات في عيون كل من حوله ...
نظرات اتهام وغضب لم يتعود عليها
لم يعد الطفل البريء في أعينهم بل صار الصغير قاتل ...!!!
قاتل بريء مع صدق المحبة !!
قاتل لم يعي حتى يومه هذا بأنه قاتل... ولم يفهم كيف ولما قد صار قاتلاً؟!
وكيف لم يسامحه أباه ابداً منذ ذلك اليوم؟!
ولا كيف صارت كل تلك القيود في يديه بغير أن يقيده أحد!
وكيف صار أباه مقيداً عن حبه ...!!
وكيف صارت أمه مقيدة عن اخباره بلهيب الحقيقة وأكتفت باحتفاظها بين جنبات صدرها حتى لا تشعره بالذنب وتهدم روحه المنطلقة...
لقد سلسل المنزل بقيود خافية لم تمحي ولم تفك من يومها ...
وحاول أحمد كثيراً أن يستعيد عافيته من تلك المحنة الصعبة لكنه وزوجته على مدار سنوات لم يستطيعا أبداً تخطيها
فهناك شيء ما قد تكسر بين جدران هذا المنزل
حاول تقبل منطق أن الحياة يجب ان تستمر
حاول كثيراً ان يتقبل حقيقة أن مازن طفل...
وأن قتله لأخيه كان مجرد مصادفة قدرية ...
أو حتى خطأ لطفل غير محاسب ولا مسئول عن تصرفاته ...
حاول تقبل ان مازن بدأ يعاني ويشعر بقسوة أبيه عليه وأن معاناته بدت تؤثر على تفكيره وصحته النفسية والجسدية
حاول أحمد كثيرا غير أن كل محاولاته دائماً ما كانت تبوء بالفشل على مدار كل تلك الأعوام السابقة...
أغمض أحمد عينيه محاول اِجتِرار المزيد من تلك الذكريات من أعماق عقله التي تمر كشريط سينمائي من أمام عينيه في لحظات معدودة
لكنه تنبه فجأة على شيء ما ...
شيء بعث من أعماق نفسه كضوء سطع في نهاية نفق مظلم
سطع حتى اضاء نفسه المظلمة بشيءٍ من اليقين ...
يقين ...أيقظ داخله أحساس ما
يقين أن هناك حقيقة جلية
ومشاعر أضاءت قلبه وعقله بأنه يحب ابنه مازن ...
فإن كانت الأقدار قد أفقدته في لحظة إسماعيل ...فيجب عليه الحفاظ على ما قد تبقى لديه
صحيح بأنه ومنذ تلك الحادثة ولسبب لا يعلمه بالتحديد أصبح قلبه مقيداً عن مصارحة ابنه الوحيد بمشاعره وإشعاره بحبه واهتمامه...
فلقد القى مقتل إسماعيل بقيود جمة على أحمد ...
قيود تكبله عن التواصل مع أبنه الوحيد...
قيود حاول مراراً كسرها ولكنه فشل....
حتى زوجته ...خلفت الحادثة بينهما حاجز كبير
انه قيد اخر ألقي على كاهله...
نعم كان إسماعيل ابنه الصغير المدلل
لكن مازن هو ابنه الكبير
اول فرحته
ومنتهى سعادته
مازال يذكر يوم أن بشر بمولده
يذكر أولى خطواته...
وأول كلمة نطق بها مازن
تذكر فرحته حين ناده بأسمه وقال ابي....
تذكر كيف كان مازن هو ذلك المخلوق الوحيد القادر على إضحاكه عندما تشتد عليه الكروب وتقسو عليه الدنيا
كم من مرات حاول فيها مازن أن يقترب منه بعد الحادثة ليحتضنه وينقل اليه مقدار محبته له
ما ذنب هذا الصغير الذي لم يتعد العشرة أعوام في كل ما حدث
وكيف تحمل قلبه الصغير كل تلك القسوة والإذعان دونما تذمر او شكوى
لم تكن له غير الدموع والصمت...
أوووه يا بني كم قسوت عليك دونما ذنب
لكنني منذ الأن اعاهد الله بأن أبذل جهدي لإسعادك وأن أحاول اصلاح كل ما مضى
لا يجب علينا إلا بأن نعود مثلما كنا ...وأن نمضي قدماً لنغزل ازهار السعادة في حياتنا ومستقبلنا
ولا يجب علينا إلا بأن نكسر كل تلك القيود التي أحاطت حياتنا
وهنا تراءت أمام احمد صورة مازن بابتسامته الطيبة النقية
فابتسم احمد قائلاً : نعم بني..
انت زهرة حياتنا التي انعم الله بها علينا ..
لقد جعل الله فيك العوض لنا لكننا لم نتفهم ذلك بعقولنا الضيقة الصغيرة مغزى الابتلاء من الله ...وأوقفنا حياتنا على ماض لن يعود وتركنا حاضرنا يذبل بين أيدينا
وازدادت ابتسامة احمد وجال بخاطره أن ينادي مازن وزوجته ليحتضن كليهما بحضنٍ دافئ يعوضهما عن كل ما مضى.
فإن كانت السعادة قد خلقت لكي نتشاركها فالألم خلق لكي نتجاوزه معا
عدّلّ أحمد عن فكرة النداء ...وأنطلق خارجا من غرفته بعدما قرر أن يذهب لغرفة زوجته وغرفة مازن كي يفاجئهما معاً...فمن أخطأ في يومٍ بحساباته المتعلقة بمشاعر البشر عليه تحمل جوانب اللوم الذاتي وتقبل الاعتراف بأخطائه مهما كلفه ذلك..
لم يتم أحمد خطواته تجاه غرفة زوجته سلوى...اذ سرعان ما وقع نظره عليها وقد استرخت جالسة على كرسيها المفضل وبيدها كتاب صغير ببهو المنزل ...فأقترب منها بتروي واضعاً أحدى يديه على كتفها ومربتاً عليه بحنانٍ.. فانتبهت والتفتت بهدوء ناظرة اليه نظرة حب ٍوامسكت بكلتا يداه...فأنهضها برقة...واحتضنها برفقٍ...فنمت على وجهها ابتسامة سعادة من استعاد حياته لتوه بعد فقدانها ...
أبتسم ثم وضع أصبعه امام فمه علامة الصمت وأشار إلى غرفة مازن في نهاية الرواق ثم أماء إليها بأن تتبعه نحو الغرفة فسارا معاً متوجهين لغرفة مازن بعدما أدركا من الضوء المتسلل منها بأنه لايزال مستيقظ وقد احتضنا كلاهما يد الأخر كروحٍ واحدة تحررت لتوها بعدما كسرت قيدها ...
اندلفا الزوجان من الباب المفتوح لغرفة مازن ببطء وهدوء محاولين ان لا يفزعاه...
وتنقلت اعينهما في الغرفة تبحث عنه حتى التقت به.
كان مازن نائماً كملاك صغير على فراشه وقد استرخى جسده بينما احتضن بودٍ احدى ألعابه المحببة وفي يده الصغيرة كتاب كان اباه قد اعتاد قرأته له عندما كان صغيراً....
وبدا مازن كما لو كان قد غرق في سبات عميق لا يبتغي الاستيقاظ منه.
فلعل نومه يهبه حلم قد يأخذه إلى عالم أجمل من عالمه هذا ...
همت امه بأن توقظه ولكن إشارة واحدة من يد أحمد كانت كفيلة بأن توقفها ..
كان احمد يرغب في قضاء أطول وقت ممكن يتأمل فيه النائم بهدوء الملائكة...
كان يشعر بأن في داخله شوق كبير وحب قد تراكم لسنوات طويلة تجاه ابنه فجاءت نظراته اليه وكأنما يراه لأول مرة أو كأنه لم يره منذ سنوات بعيدة.
اقترب احمد من مازن بهدوء وجلس بجانبه عل الفراش يداعب شعره واضعاً رأسه فوق صدره وهو يحتضنه بشوق كل تلك السنوات الماضية وما عاد لديه أي رغبة سوى تعويض زوجته وابنه عن حزن كل تلك السنوات. بينما وقفت سلوى تبتسم وتتأملهما معاً بسعادة ورضا...
وفي رقة بالغة ربت احمد على شعر مازن وانسابت يداه تتحرك برفقٍ على رأسه بهدوء لتوقظه من سباته ...
لكن مازن كان ذهب في سبات عميق...
أعمق بكثيرٍ مما يتخيل الجميع...
فحاول أن يهزه بقوةٍ ...
لكن أي من هذه المحاولات لم تفلح....
وحينها أدرك احمد ان الأوان قد فات ...
وان القدر لم يمهله حتى يصلح خطئه ويعوض ابنه ما قد قاساه بغير ذنب طوال تلك السنوات.
انتبهت سلوى إلى هدوء مازن التام وأنه صار لا يحرك ساكناً.....
وبأن رأسه الصغير قد سقط على صدره منبأً بمعنى النهاية ...
فاندفعت صارخة تلقفه بين احضانها بهلعٍ ولهفة وهي تبكي
أما احمد فقد رفع يده الي عيناه المشدوهتان محاولاً دفع هذا السيل من الدموع التي ما باتت ترغب أن تتحرر....
وعلى فراش مازن الصغير ...
تجاور الزوجان وقد احتضنا بحزن العالم كله في قلبيهما هذا الجسد الممدد فوق الفراش ....
وبكيا كما لم يبكي من قبل بشرٌ ...
بكيا وعلا صوت بكائهما وأشتد نحيبهما مجسداً لكل معان الحزن الممتدة جذوره في قلبيهما
بكيا.... فقط.
كطفلين....
Categories:
قصص قصيرة