هَمَسـَــاتٌ عـَـابرةْ II



"حول طبيعة الأشياء " عنوان بسيط لمعنى عميق ومتشعب ...
 وأما  تفسير  العنوان فجاء عن طريق قصيدة فلسفية علمية عميقة و ملحمية وطويلة جدا ورائعة للشاعر الروماني الأرستقراطي تيتوس لوكريتيوش والقصيدة فلسفية جداً وتقع في حوالي 7000 بيت و ما يقرب من ستة مجلدات وتتمحور حول الفكر الفلسفي الأبيقوري عن طبيعة الأشياء والكون والمادة والذرات المكونة لها وعن الآلهة والجسد والروح والعلاقات بين البشر بعضهم البعض وبين الآلهة والبشر ويشرح لوكريتيوش في قصيدته "حول طبيعة الأشياء " الكثير من النظريات والأفكار الفلسفية الجافة جدا و المتعلقة بالفيزياء وعلوم المعادن والذرة والمادة و حركة و شكل الأجرام السماوية و فكرة تكون العالم و فكرتي التطور و التقدم وغيرها وحتى أسباب تلوث الهواء بفعل حفر المناجم بحثا عن المعادن، وعن لوعة المحاصيل الزراعية بسبب ضعف التربة، وعن اختفاء الغابات و عن الإنسان الأول و العقد الاجتماعي و نشأة اللغة ونظامي الملكية و الحكومة إلى جانب مناقشته للعادات و التقاليد و الفنون و الأزياء و الموسيقى بأسلوب جميل مسجع مستخدما إحساسه المرهف وألفاظه الجزلة والكثير من التشبيهات والاستعارات المستحدثة  وقتها لذلك يمكننا أن نطلق على هذه القصيدة ببساطة أنها قصيدة علمية تناقش وتتبنى  أفكار ونظريات المذهب الأبيقوري من وجهة نظر الشاعر الموهوب ..و المذهب الأبيقوري  ببساطة هو مذهب فلسفي لا ديني ساد لما يقرب من ستة قرون قبل الميلاد ، و مقتضاه إرجاع كل شيء في عالمنا إلى ذرات، وأن الأخلاق هي هدف الحياة و أساسها اللذة، واللذة هي هدف الإنسان في حياته. واللذة المقصودة  هي اللذة العقلية. وخير اللذات عندهم  هي في هدوء البال، وطمأنينة النفس. وهدوء البال بدوره يتحقق بالحد من الرغبات، والحاجات، والبساطة، والاعتدال في العيش.
ونعود إلي القصيدة ذاتها والتي تحمل عنوان " حول طبيعة الأشياء" وهي القصيدة الوحيدة لهذا الشاعر   المعذب لوكريتيوش الذي قد عاش لأقل من خمسين عاماً  قد عاني فيها من كافة أعباء الحياة مما اضطره  إلى الهرب من متاعب  هذا العالم ليلجأ إلى الطبيعة والفلسفة والشعر والتي قد مات بعدها أو ربما قد مات بسببها وهو الشاعر  المرهف الإحساس والسريع التأثر  والذي لم يجد سعادته  إلا بين الأشجار والسماء والأنهار وأصوات الطيور
ولم يعرف عن شاعر أخر من قبله أنه قد عبر عن جمال العالم وما حواه من مظاهر بمثل ما عبر عنه لوكريتيوش الذي هذبت معاول الطبيعة قلمه وشذبت روحه . وأفاضت عليه بقدرة  هائلة على الوصف لم يفقه فيهما إلا هومروس وشكسبير.
ولهذا لا نتعجب  أبدا ً أن شخصية بمثل رقة وتأثر وحساسية لوكريتيوش لم تستطع التأقلم  بطبيعة الحال مع بعض مظاهر العنف والتطرف الديني الروماني في عصره وربما هذا  هو ما دفعه إلي البحث عن أفكار ومعتقدات فلسفية أخرى كبدائل لتفسير الوجود الإنساني و تنظيم العلاقات البشرية 
فالرومان في تلك الحقبة لم يكونوا  بطبيعة الحال  في حاجة إلا إلى رجل ذي فلسفة ميتافيزيقية يمجد القوى الخفية الباطنية حتى يسهل لهم  مهمة السيطرة و التحكم  على عقول شعوبهم   ليسهل دفعهم إلى القتال وحشدهم إلى الحروب والغزوات ولم يكونوا أبداً  في حاجة إلى فلسفات  تتبنى  أفكار  عقلية أو  تبنى على قوانين الطبيعية، أو أن  تمهد لهم  وجود شعب من أصحاب النزعة الإنسانية  و المحبين للسلم والهدوء
وتلك القصيدة  والتي قد قال عنها فولتير...إنني عندما اقرأها .... لا استطيع إلا أن أقرأها بكل احترام و خشوع فما فيها من أبيات سيبقى ما بقيت الأرض بل أن تأثر فولتير بشخص وأفكار لوكريتيوش قد بلغ  حد أنه كتب قصيدة بعنوان "رسالة إلى أوراني" نشرت سنة 1732، تمنى فيها أن يصبح مثل لوكريتيوش
يقول  فيها لوكريتيوش  مخاطباً فينوس:
أي فينوس المغذية المربية!.. إن جميع الأحياء التي تحمل بها أمهاتها وتلدها، ثم تنظر إلى الشمس
فهي دائما عن طريقك أنت.
وإذا أقبلت أنت فرت الرياح من  أمامك، وتبددت سحب السماء...
و  إليك ترفع الأرض ذات المعجزات أزهارها الجميلة،
وإليك تضحك أمواج البحر وتتلألأ السماء الصافية بالضياء الشامل.
ذلك أنه إذا ما بدت تباشير النهار في فصل الربيع وهبت ريح الجنوب المخصبة فأكسبت كل الأشياء نضارة وخضرة، هللت لك طيور الهواء أولاً ورحبت بقدومك،
يا أيتها الإلهة المقدسة، يا من قوتك قد نفذت في قلبها، ثم أخذت القطعان البرية تقفز فوق المراعي التي تفرح بقفزها، وتعبر الجداول السريعة الجريان، وهكذا يصبح كل واحد منها أسير جمالك ويسير في ركابك أينما سرت"

وقد عاش  لوكريتيوش  تقريبا   44 عاماً  قد جعل العشر سنين الأخيرة منها لكتابة هذه القصيدة الملحمية التي وضع فيها أفكاره ونظرياته
ومع أخر سطر فيها وأخر كلمة  ورمق وحرف ... اغلق باب حجرته وتناول سما ومات منتحراً وقيل بل قد تناول أكسير الحب ومات
وعلى الرغم أنه لم يعرف عن لوكريتيوش أنه قد أحب يوماً  برغم أنه في قصيدته (عن طبيعة الأشياء)، يتحدث عن سلطان الحب، وعن كيفيات النجاة من تأثيراته، إلا أنه ربما ونتيجة لحدة عواطفه واندفاعه انتهى بأن أديا إلى انتحاره وموته وربما أنه  أحب وفشل في حبه وهو ما يفسر أن كلماته تحمل الكثير من القسوة والغلظة  على النساء
وقد قال عنه أحد معاصريه وهو يوليوس بومبونيوس لايتوس الذي ينتمي إلى مذهب الإنسانية القديمة " إنّ "لوكريتوس" هو من قتل نفسه لأنه لم يكن أبداً سعيداً في الحب مع شخص آخر أبداً
ويبقى أن لوكريتيوش هو من  نقل زعامة الأدب نهائياً من بلاد اليونان إلى روما وقد قالوا قديماً.
إن أشعار لوكريتيوس الرائعة لن تموت أبداً حتى ينتهي العالم يوماً ما بكارثة.

Categories: