"لا تنسي إحضار طعام القطة ولا تتأخر عني وخذ بالك من نفسك ومن الأولاد"
استعاد تلك الكلمات التي أوصتها به زوجته قبل ذهابه بينما يمسك مقود السيارة بكلتا يديه وهو ينظر في المرأة على المقعد الخلفي للسيارة متأملاً أولاده" ياسمين" و"سليم "
وهم يضحكون ويشاكسون بعضهم البعض
- الحمد لله...
هكذا حدث نفسه وهو يتذكر كل تلك السنوات التي قضاها وزوجته في مساعيهم
للإنجاب وكل تلك المحاولات التي أرقتهم واستفذتهم جسدياً ونفسياً ومادياً على مدار العشرين عاماً الماضية والتي هي عمر زواجهم حتى أكرمهم الله وأقر أعينهم منذ ثلاث سنوات "بياسمين" و"سليم"...
ما أشبه هذين التوأمين جميلي الطلعة والطباع...رقيقا الملامح بملكين قد هبطا من العلياء كي يغيرا حياتهما ويبعثا في أيامهم الخامدة روحاً من الجنة ...
ما ألطفهما واهدئهما. وإن كانت ياسمين الأكبر من توءمها بدقائق قليلة قد تبدوا كأكثر حركة منه وأكثر نشاطاً ومشاكسةً.
ربما فقط تأخر كلامِهما هو ما يؤرق والديهم الأن...فالتؤم حتى الأن لم ينطقا سوي بكلمات بسيطة لا تستطيع استيضاحها ولا تفرق بين حروفها المتداخلة ...
انهم حتى لا يعرفون أسمائهم بشكل جيد إن ناديتهم بها ...!!
- هذين الملكين يحتاجا الي رحلة طويلة ....
هكذا قالها لنفسه وهو يتنهد كلمات قليلة تعلوها مسحة من الحزن قد كست صوته وألّمت بملامح وجهه ...
- الحمد لله .. اليوم رزقنا الله بطفلينا و صارت عندنا سيارة صغيرة أن شاء الله .. غداً تتحسن الأمور ....
- أوووف الجو اليوم حار جداً....
قالها وهو ينحرف بالسيارة ببطء متخذا طريقا جانبيا ً صغيراً في تجاه المتجر الذي قد اعتاد على الدوام أن يشتري منه اغلب مستلزماته وأكثر احتياجاته ...
ولكن فيما يبدو إن شدة الحرارة والزحام كلاهما ُقد أثرا عليه بحيث أنه لم يتبين تلك السيارة التي كادت أن تصطدم بسيارته الصغيرة حتى أنتبه في اللحظة الأخيرة فعدل من وضع السيارة لتفادي الاصطدام...
- أوووف الحمد لله جت سليمة ....
قالها بابتسامة رضا ورغم أنه بطبعه لا يحب القيادة ولكن للضرورة احكامها التي لا مناص منها ولا مفر من تتبعها ...
- تماسكوا يا أولاد .... وتوقفوا عن المشاكسة فقد قاربنا على الوصول
ألقى نظرة سريعة على مدخل المتجر...فأيقن منذ اللحظة الأولى بأنه لا مكان له لكي يوقف سيارته في هذا الزحام الشديد...
وبينما يعمل عقله جاهدا على إيجاد بديل مناسب وفي ذات اللحظة تحركت إحدى السيارات المتوقفة لتخلي مكانها ...
- أخيراً ....قالها بسعادة لم تتم اذ سرعان ما انحرفت سيارة أخرى كي تتوقف في مكان السيارة التي تحركت مبتعدة وتحتل مكانها
أوووف ...قالها بعصبية تلك المرة وهو يطرق بأنامله على مقود السيارة ويفكر في حل .. ..
وعندها قرر بأن أفضل الحلول هو أن يذهب إلى متجر أخر يبعد بمسافة بعيدة إلى حد ما عن هذا الذي تعود على الشراء منه فأدار مقود السيارة وانطلق بالسيارة مرة أخرى ...متخطياً بحر الزحام ..و قاطعاً مسافة كبيرة بينما تعلو شفتيه ابتسامة رضا هو يتابع بعينيه من وقت لأخر في مرأة السيارة مشاكسات الأطفال في الخلف و الذين لم يكفوا لحظة عن الصياح واللهو
مر الوقت ببطء وهو ينتقل من شارع لأخر ...فالمدينة تبدو اليوم في أوج ازدحامها والانتقال عبر دروبها من مكان لأخر يستنزف الوقت والجهد ...والمتجر الذي يقصده يقع بعيداً على طريق رئيسي في اخر المدينة...
- وأخيراً...
لفظها وهو يطلق تنهيدة حارة ويلقي بعينيه نظرة فاحصة على اللافتة التي تعلو المتجر الذي قصده......ثم أدار رأسه في اتجاهات عدة قاصداً البحث عن مكان لإيقاف سيارته الصغيرة لكن بحثه على ما يبدو لم يصادفه التوفيق مما يستوجب عليه ان يقطع مسافة أخرى لإيقاف السيارة في مكان بعيد نوعا ًثم عليه بعدها أن يعود الي المتجر سيرا على الأقدام.
ألتفت للخلف وهو يطلق ابتسامة حب لأطفاله بعد ان أوقف سيارته في مكانها المخصص بدون عناء وقد استعد لإلقاء بعض عبارات التحذير و الطمأنينة السريعة على اسماعهم بعد أن فكر بأن الأنسب للأطفال هو تركهم بالسيارة بدلاً من تعريضهم لمجازف عبور الطريق ومخاطره ..
- الأفضل أن أذهب لإحضار طلبات المنزل وأعود سريعاً...فالمتجر في نهاية الشارع على بعد أمتار قليلة في الناحية المقابلة هكذا تمم محدثا نفسه قبل ان يرفع صوته: "ياسمين"," سليم"....
سأذهب لإحضار بعض الأشياء سريعاً من فضلكم عليكم أن تبقوا في السيارة هادئين ,لا يشاكس أحدكم الأخر ولا يعبث أحدكم في أي من أجزاء السيارة وعموماً سأغلق السيارة من الخارج ولن أتأخر.... فقط دقائق قليلة وأعود.
قالها ثم احتضن كلاهما بحنوٍ بالغ
ثم ألقي إليهم بابتسامة طمأنينة فضحكا حتى أشرق وجههما. وإن لم تبد على أي منهما أي علامات على أن أي منهما قد فهم شيئاً من حديث أبيهم ماعدا ذلك الجزء الخاص بنبرة صوته الهادئة الحنونة التي وإن لم يفهما فحوها لكنهما لم يخطئا ابدأ كل هذا الفيض من موجات الحب والطمأنينة التي تبعثها تلك النبرة في قلوبهما ...فلم يكد يبتعد اباهما بخطوات قليلة حتى اندمجا في ضحك ومشاكسة لكل منهما للأخر ...
خطا بخطوات سريعة مبتعداً عن مكان السيارة باتجاه نهاية الشارع قبل أن ينعطف بتعجلٍ محاولاً اكتساب مزيداً من الوقت بعبور الشارع في أقرب نقطة للمتجر.
تحسس جيبه للاطمئنان على حافظة نقوده ليتفاجأ بأنه على ما يبدو قد نسيها ..وعندها وكعادته تحسس جيبه الأخر للتأكد من وجود بعض النقود الكافية لشراء مستلزماته ليطمئن إلى وجودها
ألقى نظرة سريعة في كلا الاتجاهين قبل أن يخطو عابراً محيط الشارع بسرعةٍ وتوتر
وقد جال بخاطره للحظة أن كل ما يجب عليه فقط هو الإسراع لكي يعود لأطفاله الذين لا حول لهم ولا قوة وقد يقتلهم المكوث في السيارة إن تأخر عليهم.
........................................
الفاصل بين الأبيض والأسود شعرة...
والفاصل بين الموت والحياة لحظة ..
وتلك اللحظة هي الفاصل الذي جعله لم ينتبه إلى كل تلك الأصوات التي تناديه محذرة ولا إلى هذا الصوت المفزع لسيارة طائشة ليس بينه وبينها سوى لحظة واحدة ....
لحظة واحدة قبل الاصطدام....
كم هو صغير ذلك العالم ...الكبير جدا
كم هو صغيرٌ حينما نكتشف بأن الحياة كلها لا تساوي سوى تلك اللحظة ...
عندما تتوقف عجلة الزمن للحظة واحدة.
لحظة واحدة...
لحظة واحدة كفيلة بأن تغير أشياء كثيرة
وكأن كل شيء كان يسير بسرعة ما .... وفجأة توقف وصار يسير ببطء فوق العادة...
كل شيء يسير بقوانين غير تلك التي نعرفها وتعلمناها ..
لحظة واحدة تفصل بين الحياة وما بعدها وسواها.
لحظة واحدة تجعلنا نفكر ألف مرة....
وتلقي في عقولنا ألف فكرة....
وتسترجع لقلوبنا ألف ذكرى ....
وقد مر في تلك اللحظة أمامه شريط طويل من كل تفاصيل حياته...
مر بسرعة أو ببطء لا يعلم حقا ....
فالزمن لا مكان له هنا...
كل هذا في لحظة....
لحظة سرمدية الزمن....
رأي بها تفاصيل كثيرة وخيالات كثيرة لكنه يعلم علم اليقين بأنه لن يعود في تلك المرة كي يرويها لأحد...لا زوجته ولا اطفاله ولا غيرهم
كل تفاصيل حياته تتسارع...
زوجته.... عمله.... اطفاله....
-نعم أطفالي...وعندها صدرت منه أهة مكتومة بدمعة أنين لا ارادية قد انسابت على وجنتيه...
كم سأفتقدهما .....
وتوقفت اللحظة فجاءة كما بدأت...
وكأن بتلك الكلمة يقع مفتاح السر...
تنبه للحظة ووعى عقله المشهد
ألوان كثيرة تخترق حواجز عينيه
تفاصيل كثيرة ما بين الأبيض والأسود تتتابع بلا خيطٍ فاصل
ظلمة شديدة ....
ضوء ساطع...يذهب ويأتي
أصوات مختلطة ...
تبدو بعيدة وكأنها تأتي من اعماق سحيقة
أصوات متداخلة يميز بعض حروفها ....
- لاحول ولاقوة إلا بالله!!
- صدمة المجرم وهرب!
- سيارة طائشة ...
- فليطلب أحدكم سيارة الإسعاف !!
- حاول أن تنطق الشهادة يا رجل !!
اقترب أحدهم منه واضعا رأسه النازف في حنوٍ بالغٍ محاولاً تلقينه الشهادة
فقالها ببطءٍ ثم تمتم، وهو يشد علي يد الرجل...
اطفاااااا،،،
انتبه أحدهم إلى تمتمته التي يبدوا من خلالها وكأنه يحاول قول شيئاً ما
- ماذا يقول ؟!! إنه يحاول ان يتمتم بشيء ما.... لعله يخبرنا بشيء؟!!
- لا يا رجل أنه هذيان الموت وما أحسبها الا همهمات بلا غاية،،،،،
بقعة كبيرة من الضوء الساطع ......
تقترب وتبتعد. ثم تسطع فجأة لتتلوها ظلمة حالكة .....
تباعد الحشد من حوله محاولين إفساح الطريق لسيارة الإسعاف التي أتت كعادتها متأخرة وسط استنكار وحزنٍ من كافة المحيطين بالمشهد....
- تأخرت سيارة الإسعاف لقد انتهي كل شيء. ...
- هل يعرفه أحدكم. ؟!.... سأل المسعف:
- رحمه الله ليس معه أوراق هوية
أماء المسعف برأسه علامة الفهم وهو يقول:
- حسناً هنالك الكثير من الإجراءات القانونية الواجبة وإذا لم يتم التوصل لهويته خلال فترة معينة سيتم دفنه في مقابر الصدقات
انطلقت سيارة الإسعاف وأنّفضّ الحشدُ كل في طريقه....
وهنالك .....
وعلى مسافةٍ ليست ببعيدة .....
وفي سيارةٍ صغيرة مؤصدة الأبواب ....
على مقعدها الخلفي ....
يرقد طفلان كملائكة الفردوس...وقد اِتَّكأَ كلٌ منهما على كتف الأخر...
وعلى ما يبدو...فقد استرخت أجسادهما وبدا كما لو كانا قد أغمضا عينيهما وذهبا في سبات عميق جداً ....